فصل: المحفوظ أن ابن عمر طلّق امرأته واحدة في الحيض‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **


وقد قال ابن كثير في حديث محمود هذا‏:‏ أن إسناده جيد، وقال الحافظ في ‏"‏ بلوغ المرام ‏"‏‏:‏ رواته موثقون، وقال في ‏"‏ الفتح ‏"‏‏:‏ رجاله ثقات، فإن قيل‏:‏ غضب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتصريحه بأن ذلك الجمع للطلقات لعب بكتاب اللَّه يدلّ على أنها لا تقع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ ‏"‏، وفي رواية‏:‏ ‏"‏ من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد‏"‏، فالجواب أن كونه ممنوعًا ابتداء لا ينافي وقوعه بعد الإيقاع، ويدلّ له ما سيأتي قريبًا عن ابن عمر من قوله لمن سأله‏:‏ وأن كنت طلقتها ثلاثًا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجًا غيرك، وعصيت اللَّه فيما أمرك به من طلاق امرأتك، ولا سيما على قول الحاكم‏:‏ إنه مرفوع، وهذا ثابت عن ابن عمر في الصحيح ويؤيده ما سيأتي إن شاء اللَّه قريبًا من حديثه المرفوع عند الدارقطني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏"‏كانت تبين منك وتكون معصية‏"‏، ويؤيده أيضًا ما سيأتي إن شاء اللَّه عن ابن عباس بإسناد صحيح أنه قال لمن سأله عن ثلاث أوقعها دفعة‏:‏ ‏"‏إنك لم تتق اللَّه فيجعل لك مخرجًا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك‏"‏‏.‏

وبالجملة، فالمناسب لمرتكب المعصية التشديد لا التخفيف بعدم الإلزام، ومن أدلتهم ما أخرجه الدارقطني عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما، أنه قال‏:‏ فقلت‏:‏ يا رسول اللَّه ‏!‏ أرأيت لو طلقتها ثلاثًا أكان يحل لي أن أراجعها ‏؟‏

قال‏:‏ ‏"‏لا، كانت تبين منك وتكون معصية ‏"‏، وفي إسناده عطاء الخراساني وهو مختلف فيه، وقد وثقه الترمذي، وقال النسائي وأبو حاتم‏:‏ لا بأس به، وكذبه سعيد بن المسيب، وضعفه غير واحد، وقال البخاري‏:‏ ليس فيمن روي عن مالك من يستحق الترك غيره، وقال شعبة‏:‏ كان نسيًّا، وقال ابن حبان‏:‏ كان من خبار عباد اللَّه، غير أنه كثير الوهم سَيِّىءَ الحفظ، يخطىء ولا يدري، فلما كثر ذلك في روايته بطل الاحتجاج به‏.‏ وأيضًا الزيادة التي هي محل الحجة من الحديث أعني قوله‏:‏ ‏"‏ أرأيت لو طلقتها ‏"‏ الخ مما تفرد به عطاء المذكور‏.‏ وقد شاركه الحفاظ في أصل الحديث، ولم يذكروا الزيادة المذكورة‏.‏ وفي إسنادها شعيب بن زريق الشامي وهو ضعيف، وأعلّ عبد الحق في أحكامه هذا الحديث، بأن في أسناده معلى بن منصور، وقال‏:‏ رماه أحمد بالكذب‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ أما عطاء الخراساني المذكور فهو من رجال مسلم في ‏"‏ صحيحه ‏"‏، وأما معلى بن منصور فقد قال فيه ابن حجر في ‏"‏ التقريب ‏"‏‏:‏ ثقة سني فقيه طلب للقضاء فامتنع، أخطأ من زعم أن أحمد رماه بالكذب، أخرج له الشيخان وباقي الجماعة‏.‏ وأما شعيب بن زريق أبو شيبة الشامي فقد قال فيه ابن حجر في ‏"‏ التقريب ‏"‏‏:‏ صدوق يخطىء، ومن كان كذلك فليس مردود الحديث، لا سيما وقد اعتضدت روايته بما تقدم في حديث سهل، وبما رواه البيهقي عن الحسن بن علي رضي اللَّه عنهما، فإنه قال في ‏(‏السنن الكبرى‏)‏، ما نصّه‏:‏ أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان‏:‏ أنا أحمد بن عبيد الصفار، أنا إبراهيم بن محمد الواسطي، أنا محمد بن حميد الرازي، أنا سلمة بن الفضل، عن عمرو بن أبي قيس، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن سويد بن غفلة، قال‏:‏ كانت عائشة الخثعمية عند الحسن بن عليّ رضي اللَّه عنهما، فلما قتل عليّ رضي اللَّه عنه قالت‏:‏ لتهنك الخلافة، قال‏:‏ بقتل علي تظهرين الشماتة، إذهبي فأنت طالق، يعني ثلاثًا قال‏:‏ فتلفعت بثيابها وقعدت حتى قضت عدتها، فبعث إليها ببقية بقيت لها من صداقها وعشرة آلاف صدقة، فلما جاءها الرسول قالت‏:‏ متاع قليل من حبيب مفارق، فلما بلغه قولها بكى ثم قال‏:‏ لولا أني سمعت جدي أو حدثني أبي أنه سمع جدي يقول‏:‏ ‏"‏ أيما رجل طلق امرأته ثلاثًا عند الأقراء‏"‏، أو ‏"‏ثلاثًا مبهمة لم تحل له حتى تنكح زوجًا غيره‏"‏ لراجعتها‏.‏

وكذلك روي عن عمرو بن شمر، عن عمران بن مسلم، وإبراهيم بن عبد الأعلى، عن سويد بن غفلة‏.‏ اهـ منه بلفظه‏.‏ وضعف هذا الإسناد بأن فيه محمد بن حميد بن حيان الرازي، قال فيه ابن حجر في ‏(‏التقريب‏)‏‏:‏ حافظ ضعيف، وكان ابن معين حسن الرأي فيه، أن فيه أيضًا سلمة بن الفضل الأبرش، مولى الأنصار قاضي الري قال فيه في ‏(‏التقريب‏)‏‏:‏ صدوق كثير الخطأ وروي من غير هذا الوجه وروي نحوه الطبراني من حديث سويد بن غفلة، وضعف الحديث إسحاق بن راهويه، ويؤيد حديث ابن عمر المذكور أيضًا ما ثبت في الصحيح عن ابن عمر من أنه قال‏:‏ ‏"‏ وإن كنت طلقتها ثلاثًا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجًا غيرك، وعصيت اللَّه فيما أمرك به من طلاق امرأتك ‏"‏‏.‏ ولا سيّما على قول الحاكم‏:‏ إنه مرفوع، وعلى ثبوت حديث ابن عمر المذكور، فهو ظاهر في محل النزاع‏.‏ فما ذكره بعض أهل العلم من أنه لو صح لم يكن فيه حجة؛ بناء على حمله على كون الثلاث مفرقة لا مجتمعة، فهو بعيد‏.‏ والحديث ظاهر في كونها مجتمعة؛ لأن ابن عمر لا يسأل عن الثلاث المتفرقة إذ لا يخفى عليه أنها محرمة، وليس محل نزاع‏.‏ ومن أدلتهم ما أخرجه عبد الرزاق في ‏"‏ مصنفه ‏"‏، عن عبادة بن الصامت، قال‏:‏ ‏"‏ طلق جدي امرأة له ألف تطليقة، فانطلق إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما اتقى اللَّه جدك، أما ثلاث فله‏.‏ وأما تسعمائة وسبع وتسعون فعدوان وظلم، إن شاء اللَّه عذبه وإن شاء غفر له ‏"‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏إن أباك لم يتقّ اللَّه فيجعل له مخرجًا، بانت منه بثلاث على غير السنة، وتسعمائة وسبع وتسعون إثم في عنقه ‏"‏، وفي إسناده يحيى بن العلاء، وعبيد اللَّه بن الوليد، وإبراهيم بن عبيد اللَّه، ولا يحتجّ بواحد منهم‏.‏

وقد رواه بعضهم عن صدقة بن أبي عمران، عن إبراهيم بن عبيد اللَّه بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده‏.‏ ومن أدلتهم ما رواه ابن ماجه عن الشعبي قال‏:‏ قلت لفاطمة بنت قيس‏:‏ حدّثيني عن طلاقك، قالت‏:‏ طلّقني زوجي ثلاثًا، وهو خارج إلى اليمن، فأجاز ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي رواية أبي أُسامة عن هشام بن عروة عن أبيه، عن فاطمة بنت قيس قالت‏:‏ ‏"‏ يا رسول اللَّه، إن زوجي طلّقني ثلاثًا، فأخاف أن يقتحم عليّ فأمرها فتحولت ‏"‏‏.‏

وفي مسلم من رواية أبي سلمة، أن فاطمة بنت قيس أخبرته أن أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلّقها ثلاثًا ثم انطلق إلى اليمن الخ‏.‏‏.‏‏.‏ وفيه عن أبي سلمة أيضًا أنها قالت‏:‏ ‏"‏ فطلّقني البتّة ‏"‏‏.‏

قالوا‏:‏ فهذه الروايات ظاهرة، في أن الطلاق كان بالثلاث المجتمعة، ولا سيّما حديث الشعبي؛ لقولها فيه‏:‏ فأجاز ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إذ لا يحتاج إلى الإخبار بإجازته إلا الثلاث المجتمعة، وردّ الاستدلال بهذا الحديث بما ثبت في بعض الروايات الصحيحة، كما أخرجه مسلم من رواية أبي سلمة أيضًا‏:‏ أن فاطمة أخبرته أنها كانت تحت أبي عمرو بن حفص بن المغيرة فطلّقها آخر ثلاث تطليقات‏.‏

فهذه الرواية تفسر الروايات المتقدمة، وتظهر أن المقصود منها أن ذلك وقع مفرّقًا لا دفعة، وردّ بعضهم هذا الاعتراض بأن الروايات المذكورة تدلّ على عدم تفريق الصحابة والتابعين بين صيغ البينونة الثلاث، يعنون لفظ البتة والثلاث المجتمعة، والثلاث المتفرقة؛ لتعبيرها في بعض الروايات بلفظ طلّقني ثلاثًا، وفي بعضها بلفظ‏:‏ طلّقني البتّة، وفي بعضها بلفظ‏:‏ فطلّقني آخر ثلاث تطليقات‏.‏ فلم تخص لفظًا منها عن لفظ؛ لعلمها بتساوي الصيغ‏.‏

ولو علمت أن بعضها لا يحرم لاحترزت منه‏.‏

قالوا‏:‏ والشعبي قال لها‏:‏ حدّثيني عن طلاقك، أي‏:‏ عن كيفيته وحاله‏.‏ فكيف يسأل عن الكيفية ويقبل الجواب بما فيه عنده إجمال من غير أن يستفسر عنه، وأبو سلمة روى عنها الصيغ الثلاث، فلو كان بينه عنده تفاوت لاعترض عليها باختلاف ألفاظها‏.‏ وتثبت حتى يعلم منها بأي الصيغ وقعت بينونتها، فتركه لذلك دليل على تساوي الصيغ المذكورة عنده هكذا ذكره بعض الأجلاء‏.‏

والظاهر أن هذا الحديث لا دليل فيه؛ لأن الروايات التي فيها إجمال بينتها الرواية الصحيحة الأخرى كما هو ظاهر، والعلم عند اللَّه تعالى‏.‏

ومن أدلتهم ما رواه أبو داود والدارقطني وقال‏:‏ قال أبو داود‏:‏ هذا حديث حسن صحيح، والشافعي، والترمذي، وابن ماجه، وصححه ابن حبان والحاكم عن ركانة بن عبد اللَّه أنه طلق امرأته سهيمة البتة، فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك‏.‏ فقال‏:‏ واللَّه ما أردت إلا واحدة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏واللَّه ما أردت إلا واحدة ‏"‏‏؟‏ فقال ركانة‏:‏ واللَّه ما أردت إلا واحدة، فردها إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وطلّقها الثانية في زمان عمر بن الخطاب، والثالثة في زمن عثمان، فهذا الحديث صححه أبو داود، وابن حبان، والحاكم‏.‏

وقال فيه ابن ماجه‏:‏ سمعت أبا الحسن علي بن محمد الطنافسي يقول‏:‏ ما أشرف هذا الحديث‏.‏

وقال الشوكاني في ‏"‏ نيل الأوطار ‏"‏‏:‏ قال ابن كثير‏:‏ قد رواه أبو داود من وجه آخر، وله طرق أُخر، فهو حسن إن شاء اللَّه‏.‏ وهو نصّ في محل النزاع؛ لأن تحليفه صلى الله عليه وسلم لركانة ما أراد بلفظ البتة إلا واحدة دليل على أنه لو أراد بها أكثر من الواحدة لوقع، والثلاث أصرح في ذلك في لفظ البتّة؛ لأن البتّة كناية والثلاث صريح، ولو كان لا يقع أكثر من واحدة، لما كان لتحليفه معنى مع اعتضاد هذا الحديث بما قدمنا من الأحاديث‏.‏ وبما سنذكره بعده إن شاء اللَّه تعالى، وإن كان الكل لا يخلو من كلام، مع أن هذا الحديث تكلم فيه‏:‏ بأن في إسناده الزبير بن سعيد بن سليمان بن سعيد بن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب الهاشمي‏.‏

قال فيه ابن حجر في ‏"‏ التقريب ‏"‏‏:‏ لين الحديث، وقد ضعفه غير واحد‏.‏ وقيل‏:‏ إنه متروك، والحق ما قاله فيه ابن حجر من أنه ليّن الحديث‏.‏

وذكر الترمذي عن البخاري أنه مضطرب فيه‏.‏ يقال ثلاثًا، وتارة قيل واحدة‏.‏ وأصحها أنه طلّقها البتّة، وأن الثلاث ذكرت فيه على المعنى‏.‏

وقال ابن عبد البرّ في ‏"‏ التمهيد ‏"‏‏:‏ تكلموا في هذا الحديث، وقد قدّمنا آنفًا تصحيح أبي داود، وابن حبان، والحاكم له، وأن ابن كثير قال‏:‏ إنه حسن وإنه معتضد بالأحاديث المذكورة قبله، كحديث ابن عمر عند الدارقطني، وحديث الحسن عند البيهقي، وحديث سهل بن سعد الساعدي في لعان عويمر وزوجه، ولا سيّما على رواية فأنفذه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعني الثلاث بلفظ واحد كما تقدم‏.‏

ويعتضد أيضًا بما رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، عن حماد بن زيد، قال‏:‏ قلت لأيوب‏:‏ هل علمت أحدًا قال في أمرك بيدك أنها ثلاث غير الحسن ‏؟‏ قال‏:‏ لا، ثم قال‏:‏ اللهمّ غفرًا إلاّ ما حدّثني قتادة عن كثير، مولى ابن سمرة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ثلاث‏"‏‏.‏ فلقيت كثيرًا فسألته فلم يعرفه فرجعت إلى قتادة فأخبرته فقال‏:‏ نسي‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ لا نعرفه إلا من حديث سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، وتكلّم في هذا الحديث من ثلاث جهات‏:‏

الأولى‏:‏ أن البخاري لم يعرفه مرفوعًا، وقال إنه موقوف على أبي هريرة ويجاب عن هذا‏:‏ بأن الرفع زيادة، وزيادة العدل مقبولة، وقد رواه سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد مرفوعًا وجلالتهما معروفة‏.‏

قال في ‏"‏ مراقي السعود ‏"‏‏:‏ والرفع والوصل وزيد اللفظ مقبولة عند إمام الحفظ

الثانية‏:‏ أن كُثيرًا نسيه، ويجاب عن هذا بأن نسيان الشيخ لا يبطل رواية من روى عنه؛ لأنه يقل راو يحفظ طول الزمان ما يرويه، وهذا قول الجمهور‏.‏

وقد روى سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة‏:‏ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قضى بالشاهد واليمين ونسيه، فكان يقول‏:‏ حدّثني ربيعة عني ولم ينكر عليه أحد، وأشار إليه العراقي في ألفيته بقوله‏:‏ وإن يرده بلا أذكر أو ما يقتضي نسيانه فقد رأوا

الحكم للذاكر عند المعظم وحكي الإسقاط عن بعضهم

كقصة الشاهد واليمين إذ نسيه سهيل الذي أخذ عنه،

فكان بعد عن ربيعه عن نفسه يرويه لن يضيعه

الثالثة‏:‏

تضعيفه بكثير مولى ابن سمرة، كما قال ابن حزم إنه مجهول، ويجاب عنه بأن ابن حجر قال في ‏"‏ التقريب ‏"‏‏:‏ إنه مقبول، ومن أدلتهم ما رواه الدارقطني من حديث زاذان عن عليّ رضي اللَّه عنه قال‏:‏ سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلاً طلق البتّة فغضب، وقال‏:‏ ‏"‏أتتخذون آيات اللَّه هزوًا ‏؟‏ أو دين اللَّه هزوًا، أو لعبًا ‏؟‏ من طلق البتّة ألزمناه ثلاثًا لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره‏"‏، وفيه إسماعيل بن أُمية، قال فيه الدارقطني‏:‏ كوفي ضعيف‏.‏

ومن أدلتهم ما رواه الدارقطني من حديث حماد بن زيد، حدّثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال‏:‏ سمعت أنس بن مالك يقول‏:‏ سمعت معاذ بن جبل يقول‏:‏ سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ يا معاذ من طلق للبدعة واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا ألزمناه بدعته ‏"‏، وفي إسناده إسماعيل بن أمية الذارع وهو ضعيف أيضًا‏.‏ فهذه الأحاديث وإن كانت لا يخلو شىء منها من مقال فإن كثرتها واختلاف طرقها وتباين مخارجها يدل على أن لها أصلاً، والضعاف المعتبر بها إذا تباينت مخارجها شدّ بعضها بعضًا فصلح مجموعها للاحتجاج، ولا سيّما أن منها ما صححه بعض العلماء كحديث طلاق ركانة البتّة، وحسنه ابن كثير ومنها ما هو صحيح، وهو رواية إنفاذه صلى الله عليه وسلم طلاق عويمر ثلاثًا، مجموعة عند أبي داود‏.‏

وقد علمت معارضة تضعيف حديث ابن عمر عند الدارقطني من جهة عطاء الخراساني، ومعلى بن منصور، وشعيب بن زريق، إلى آخر ما تقدم‏:‏ لا تخاصم بواحد أهل بيت فضعيفان يغلبان قويًا

وقال النووي في ‏"‏ شرح مسلم ‏"‏، ما نصّه‏:‏ واحتجّ الجمهور بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ * تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً‏}‏‏.‏

قالوا‏:‏ معناه أن المطلق قد يحدث له ندم فلا يمكنه تداركه؛ لوقوع البينونة، فلو كانت الثلاث لا تقع لم يقع طلاقه هذا إلا رجعيًا، فلا يندم‏.‏ اهـ محل الغرض منه بلفظه‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ ومما يؤيد هذا الاستدلال القرءاني ما أخرجه أبو داود بسند صحيح من طريق مجاهد قال‏:‏ كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال إنه طلق امرأته ثلاثًا، فسكت حتى ظننت أنه سيردها إليه، فقال‏:‏ ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة، ثم يقول يا ابن عباس، إن اللَّه قال‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً‏}‏، وإنك لم تتق اللَّه، فلا أجد لك مخرجًا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك‏.‏ وأخرج له أبو داود متابعات عن ابن عباس بنحوه، وهذا تفسير من ابن عباس للآية بأنها يدخل في معناها ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ‏}‏، ولم يجمع الطلاق في لفظة واحدة يجعل له مخرجًا بالرجعة، ومن لم يتقه في ذلك بأن جمع الطلقات في لفظ واحد لم يجعل له مخرجًا بالرجعة؛ لوقوع البينونة بها مجتمعة، هذا هو معنى كلامه، الذي لا يحتمل غيره‏.‏ وهو قوي جدًا في محل النزاع؛ لأنه مفسر به قرءانًا، وهو ترجمان القرءَان وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ اللهم علّمه التأويل ‏"‏‏.‏ وعلى هذا القول جلّ الصحابة، وأكثر العلماء، منهم الأئمة الأربعة‏.‏ وحكى غير واحد عليه الإجماع، واحتجّ المخالفون بأربعة أحاديث الأول‏:‏ حديث ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس عند أحمد وأبي يعلىا، وصححه بعضهم قال‏:‏ طلّق ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا فسأله النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كيف طلّقتها‏"‏ ‏؟‏ قال‏:‏ ثلاثًا في مجلس واحد، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنما تلك واحدة، فارتجعها إن شئت ‏"‏ فارتجعها‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ الاستدلال بهذا الحديث مردود من ثلاثة أوجه‏:‏

الأول‏:‏ أنه لا دليل فيه البتّة على محل النزاع على فرض صحته، لا بدلالة المطابقة، ولا بدلالة التضمن، ولا بدلالة الالتزام؛ لأن لفظ المتن أن الطلقات الثلاث واقعة في مجلس واحد، ولا شك أن كونها في مجلس واحد لا يلزم منه كونها بلفظ واحد، فادعاء أنها لما كانت في مجلس واحد، لا بد أن تكون بلفظ واحد في غاية البطلان كما ترى؛ إذ لم يدل كونها في مجلس واحد، على كونها بلفظ واحد‏.‏ بنقل ولا عقل، ولا لغة كما لا يخفى على أحد‏.‏ بل الحديث أظهر في كونها ليست بلفظ واحد، إذ لو كانت بلفظ واحد، لقال بلفظ واحد وترك ذكر المجلس؛ إذ لا داعي لترك الأخص والتعبير بالأعم بلا موجب، كما ترى‏.‏

وبالجملة فهذا الدليل يقدح فيه بالقادح المعروف عند أهل الأصول بالقول بالموجب، فيقال‏:‏ سلمنا أنها في مجلس واحد، ولكن من أين لك أنها بلفظ واحد فافهم‏.‏ وسترى تمام هذا المبحث إن شاء اللَّه، في الكلام على حديث طاوس عند مسلم‏.‏

الثاني‏:‏ أن داود بن الحصين الذي هو راوي هذا الحديث عن عكرمة ليس بثقة في عكرمة‏.‏

قال ابن حجر في ‏"‏ التقريب ‏"‏‏:‏ داود بن الحصين الأموي مولاهم أبو سليمان المدني ثقة إلا في عكرمة، ورمى برأي الخوارج اهـ‏.‏ وإذا كان غير ثقة في عكرمة كان الحديث المذكور من رواية غير ثقة‏.‏ مع أنه قدمنا أنه لو كان صحيحًا لما كانت فيه حجة‏.‏

الثالث‏:‏ ما ذكره ابن حجر في ‏"‏ فتح الباري ‏"‏، فإنه قال فيه ما نصّه‏:‏ الثالث‏:‏ أن أبا داود رجح أن ركانة إنما طلق امرأته البتّة كما أخرجه هو من طريق آل بيت ركانة، وهو تعليل قوي؛ لجواز أن يكون بعض رواته حمل البتّة على الثلاث، فقال طلقها ثلاثًا، فبهذه النكتة يقف الاستدلال بحديث ابن عباس‏.‏ اهـ منه بلفظه‏.‏

يعني حديث ابن إسحاق عن داود بن الحصين المذكور عن عكرمة، عن ابن عباس، مع أنا قدمنا أن الحديث لا دليل فيه أصلاً على محل النزاع‏.‏ وبما ذكرنا يظهر سقوط الاستدلال بحديث ابن إسحاق المذكور‏.‏

الحديث الثاني من الأحاديث الأربعة التي استدلّ بها من جعل الثلاث واحدة‏:‏ هو ما جاء في بعض روايات حديث ابن عمر، من أنه طلق امرأته في الحيض ثلاثًا فاحتسب بواحدة، ولا يخفى سقوط هذا الاستدلال، وأن الصحيح أنه إنما طلقها واحدة، كما جاء في الروايات الصحيحة عند مسلم وغيره‏.‏

وقال النووي في ‏"‏ شرح مسلم ‏"‏، ما نصّه‏:‏ وأما حديث ابن عمر فالروايات الصحيحة التي ذكرها مسلم وغيره أنه طلقها واحدة‏.‏

وقال القرطبي في ‏"‏ تفسيره ‏"‏، ما نصه‏:‏ والمحفوظ أن ابن عمر طلّق امرأته واحدة في الحيض‏.‏

قال عبد اللَّه‏:‏ وكان تطليقه إياها في الحيض واحدة؛ غير أنه خالف السنّة‏.‏ وكذلك قال صالح بن كيسان، وموسىا بن عقبة، وإسماعيل بن أُمية‏.‏ وليث بن سعد، وابن أبي ذئب، وابن جريج، وجابر، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن نافع، أن ابن عمر طلق تطليقة واحدة‏.‏

وكذا قال الزهري عن سالم عن أبيه، ويونس بن جبير والشعبي والحسن‏.‏ اهـ منه بلفظه‏.‏ فسقوط الاستدلال بحديث ابن عمر في غاية الظهور‏.‏

الحديث الثالث من أدلتهم‏:‏ هو ما رواه أبو داود في ‏"‏ سننه ‏"‏، حدّثنا أحمد بن صالح، حدّثنا عبد الرزّاق، أخبرنا ابن جريج، قال‏:‏ أخبرني بعض بني أبي رافع، مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال‏:‏ طلق عبد يزيد ـ أبو ركانة وإخوته، أم ركانة، ونكح امرأة من مزينة، فجاءت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت‏:‏ ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة ـ لشعرة أخذتها من رأسها ـ ففرق بيني وبينه‏.‏ فأخذت النبيّ صلى الله عليه وسلم حمية، فدعا بركانة وإخوته، ثم قال لجلسائه‏:‏ ‏"‏أترون فلانًا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد ‏؟‏ وفلانًا يشبه منه كذا وكذا‏"‏ ‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ طلّقها ‏"‏، ففعل، فقال‏:‏ ‏"‏ راجع امرأتك أم ركانة ‏"‏، فقال‏:‏ إني طلقتها ثلاثًا يا رسول اللَّه، قال‏:‏ ‏"‏قد علمت، راجعها‏"‏، وتلا‏:‏ ‏{يأيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ‏}‏‏"‏‏.‏ قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ والاستدلال بهذا الحديث ظاهر السقوط؛ لأن ابن جريج قال‏:‏ أخبرني بعض بني أبي رافع، وهي رواية عن مجهول لا يدرى من هو ‏؟‏ فسقوطها كما ترى‏.‏ ولا شك أن حديث أبي داود المتقدم أولى بالقبول من هذا الذي لا خلاف في ضعفه‏.‏

وقد تقدم أن ذلك فيه أنه طلقها البتّة، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أحلفه ما أراد إلا واحدة، وهو دليل واضح على نفوذ الطلقات المجتمعة كما تقدم‏.‏